اسجد واقترب .... !

قال مخاطباً: "يا إخواني .. إن العبد إذا قام إلى الصلاة أُتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه"..

رددت وبالعين دمعة: "ولكم أثقلت الذنوب كاهلي واشتاق إلى ..أن أسجد لله شكرا .. أن أسجد لله طلبا للمغفرة .. أن أسجد لله حبا .. أن أسجد لله طواعية".

شاركوني اللحظة، ولنكتشف سوياً أين تقع السجدة ـ فعلا ورمزاً ـ في أنفسنا.. السجدة التي ذكرها سيد الخلق فقال عنها هي التي تجعل العبد أقرب ما يكون إلى ربه.
للسجدة معاني

عن معنى السجدة يقول "محمد": اشعر أن السجود هو مصدر الإلهام لكل أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن الانتقال من عالم لآخر، فكثيرا أشعر أن السجدة لا تعنى غير اصطدام رأسي بالأرض، وأحيانا أخرى أشعر أن هذا الاحتكاك اقرب ببرزخ انتقل بعده من نفسي إلى عالم آخر أكثر صدقا وطمأنينة.

وبحثت "هدى" عن معنى السجدة داخلها، فقالت: لا أستطيع أن أعبر بكلام فلسفي لكن عندما أريد أن أبكي، اسجد والغرفة مظلمة.

ومن خواطرهم إلى موقف عشته.. حين شاهدت زميلا لي عرف بيننا بعدم الصلاة، يقف وراء المصلين بساحة المسجد وينظر لهم في خشوع ـ إذا صح التعبيرـ قابلته في اليوم التالي وسألته وأنا اضحك: هل تخشى أن يعلم علية القوم أنك اتبعت دين محمد؟ .. ضحك وقال: لن تصدقني فأنا فعلا أحيد عن الصلاة ولا التزم بالكثير من الفروض، ولكنى فعلا أقف مشدودا وأنا أرى كل هذا الجمع من الناس يسجدا سويا ثم يرفع رٍأسه ويعود مرة ثانية فيطيل السجود.

لم أجد ما أرد به يومها، اختلفت الطرق ولم يعد زميلا لي بنفس المكان ولكنى تمنيت لو وصل إلى هذا المقال الذي بين يدي الآن وقرأه، والمقال للزميل "عبدالله الطحاوى"..يقول فيه: " ..والمسجد هو ذلك المكان الذي تسكن إليه الجبهة ساجدة لله، تعبيرًا عن منتهى العبودية ومنتهى التنسك والافتقار، لتذوب في حرارة السجود كل الأهواء والرغائب، فالسجود هو ملخص ومنتهى العبادة، واختصار لكل صور التقرب إلى الله تعالى، ونقطة التحام الدنيا بالآخرة، والغيب بالشهادة، والأرض بالسماء".
خاتمة أكثر صدقاً

حاولت البحث أكثر في معنى السجود، وبدأت من اللفظ.. رد علّى المعجم الوسيط: السجدة والسجود والمسجد كلمات ثلاث لأصل واحد هو "س ج د" ويعنى الطاعة والخضوع، وهو فعل غالبا ما ينتج عنه نوع من الطمأنينة، فنقول سجد سجوداً أي: خضع وأطمأن.

ولأنها أقوى الأركان ـ كما يقول تفسير "الميزان" كان منها اختيار مكان إقامة الصلاة ..المسجد.

ولكن الجاحظ يقول "العبرة بالمعنى والألفاظ على قارعة الطريق"، ولهذا اعتقد أنى وجدت متعة في قراءة هذا الحوار في إحدى كتب المتصوفين ..

قيل لبعض العارفين : أيسجد القلب ؟
فقال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا..
قيل: كيف؟
قال: في السجودِ
فرحـــةٌ قدســـيةٌ
جمعـــتْ كـلّ الحـشــودِ
تحتَ راياتِ الســجودِ
تســـقطُ الهالاتُ من فوق الوجوهِ الكالحةْ
ويعرّيها العــذابْ ..
أو يعـرّيها الثـوابْ..
تحــتَ آهـــاتِ الســجودِ
حُطّـــمَتْ كل القيـــــودِ
ظمـئتْ نفــسٌ تنــادي بالجحــودْ
ما بين الذل والعزة

غريبة هي السجدة وفلسفتها بين الناس .. فقد ربط المفكر "مصطفى محمود" بين معناها وفكرة "الكبر" في الإسلام، فأشار إلى أن الشيطان قد جسد الكبر لما رفض السجود لآدم كنوع من الاختلاف في الرأي مع الله فطُرد من الجنة..فالكبر يعد أًصعب الخطايا والسمة التي تأتى على صاحبها.

وقد كان "أبو ذر" على مر تاريخ المسلمين رمزا للكبرياء والحق والعزة، وحين سأل الرجل يوما الرسول الكريم عن أعمال يحبّها الله تعالى ويباهي بها الملائكة قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذر، إنّ ربك عزَّ وجلَّ يباهي الملائكة برجل قام من الليل فصلّى وحده فسجد ونام وهو ساجد، فيقول الله تعالى: اُنظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي ساجد".

إذا هذا حديث من صاحب الرسول بحياته، ولكن إن كنت ممن يرغبوا بمصاحبته في الآخرة، فاقرأ الحديث التالي واعمل به:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: "علّمني عملاً يحبّني الله، ويحبّني المخلوقون، ويثري الله مالي، ويصح بدني، ويطيل عمري، ويحشرني معك".

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه ست خصال تحتاج إلى ست خصال، إذا أردت أن يحبّك الله فخفه واتّقه، وإذا أردت أن يحبّك المخلوقون فأحسن إليهم وارفض ما في أيديهم، وإذا أردت أن يثري الله مالك فزكّه، وإذا أردت أن يصحّ الله بدنك فأكثر من الصدقة، وإذا أردت أن يطيل الله عمرك فصِلْ ذوي أرحامك، وإذا أردت أن يحشرك الله معي فأطل السجود بين يدي الله الواحد القهار".

تلك هي بعض تجليات السجود ..يكفي انك النغمة النشاز في الكون الساجد المسبح .. فالكون خلق على وضعية السجود.. الشمس والقمر والنجوم ..كلهم قرروا أن يقتربوا بالسجود..(اسجد واقترب).